صيام القلب

وصيام القلب من أرقى أنواع الصيام، وقد سمَّاه الغزالي - رحمه الله - في "الإحياء":
بصيام "خصوص الخصوص"، وهو عبارة عن صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله بالكلية، فهو إقبال بكل الهمة على الله - عز وجل - وانصراف عن غير الله سبحانه.

والقلب هو محل السعادة والشقاء، والإيمان والكفر، واليقين والشك، وإنما فرض الصيام لأسرار وحكم لا يدركها مَن كان أكبر همه أن يمتلئ بطنه بعد طول فراغ، وأن يطفئ حرارة الجوع، وشدة العطش عند مغيب الشمس، وذلك آخر عهده بالصوم.

إنما فُرِضَ الصوم ليسُلَّ من الصدور سخائها، وليدفع عن القلوب أوضارها، وليؤتِ النفوس تقواها.

وبالصوم تنسد مسالك الأكل والشرب، ويفرغ القلب للتذكُّر والتدبُّر، والنظر والتأمُّل، فيرى حقيقة الدنيا وحقارتها، وقلة شأنها وهوانها، وأنها مهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة.

أضف إلى هذا أن الصائم الصادق قد ستر قلبه عن الأحقاد والضغائن، وحال الصوم بينه وبين ما يفسده من أمراض القلوب، التي تقتل صاحبها في الدنيا، قبل أن تقتله أمراض البدن.

ويكفى ذمًَّا للشحناء والتباغض والتقاطع والتدابر أنها قاطعة للبر والصلة ما حقهُ للخير والبركة، مانعة من المغفرة في ليلة النصف من شعبان وكذا يوم الاثنين والخميس.

وكيف يصوم مَن أفطر قلبه على سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وانطوى صدره على الغش لإخوانه، وإلقاء العداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟

صيام القلب


فصيام القلب يكون بتفريغه من هذه المواد الفاسدة سواء أكانت شركِيَّات مهلكة أو اعتقادات باطلة، ومن وساوس سيئة، ومن نوايا خبيثة، ومن خطرات موحشة.

ويصوم قلب المؤمن كذلك عن الكبر والعُجب والرياء والحسد، فإذا صام القلب عن هذا كله؛ فإنه يصبح قلبًا طاهرًا عامرًا بحب الله، ويكون صاحبه من أفضل الناس.

فقد أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال:
"قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد".

مخموم القلب: طاهر القلب نظيفه، كما جاء في الحديث.

فإذا صام القلب عن هذا كله فإنه يصبح قلبًا طاهرًا عامرًا بحب الله، قلبًا فيه نور وهاج لا تبقى معه ظلمة فتراه يُزْهِرُ كالمصباح، ويضيء كالشمس، ويلمع كالفجر.

من أجل هذا ينبغي على الإنسان أن يهتم بباطنه أكثر من اهتمامه بظاهره؛ لأن الله - عز وجل - لا ينظر إلى الظاهر إنما محل نظر الرب إلى القلب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم":
ن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في "مسند الإمام أحمد": "التقوى ها هنا" ويشير إلى صدره.

فإذا صلح القلب واستسلم صلحت الجوارح واستقامت.
ولقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجوارح تصلح بصلاح القلب، لأن أصل الاستسلام هو خضوع القلب وانكساره بكليته لله تعالى: قولًا وعملًا، فإذا حصل هذا الخضوع القلبي المقترن بمحبة وتعظيم لله تعالى انقادت الجوارح تبعًا لذلك ولابد كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب".

ومن هنا كان الاهتمام بالقلب أمر حتمي، وأنه ينبغي أن يصوم عمَّا حرَّم الله تعالى؛ لأن بصلاحه يكون صلاح الجوارح واستقامتها.

وقفة:
هل تعلم أخي الحبيب كما أن صيام القلب عن المواد الفاسدة سبيل لصلاح الجسد، كما مر بنا؟ فكذلك صيام الجسد عن الطعام والشراب سبيل لصلاح القلب.

فقد قال الحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر".

وحر الصدر: أي حقده وحسده.

ويقول إبراهيم الخواص - رحمه الله -: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتَّضرُّع عند السحر، ومجالسة الصالحين".

وكذلك صيام النفس عن الشهوات سبيل لصلاح القلب.
يقول أبو سليمان الداراني - رحمه الله -:
"إن جاعت النفس وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت عمِيّ".

بشرى لمن صام قلبه عن الأمراض المهلكة:
أخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
"كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، وقد تعلَّق نعليه في يديه الشمال، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالة الأولى، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني اليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله - عز وجل - حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرارٍ: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة؛ فطلعتَ أنت الثلاث مرارٍ، فأردتُ أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير إني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق".

تنطف لحيته: يتساقط منها الماء لاحيت أبي: أي نازعته.

فهي أخي الحبيب... طَهِّر قلبك من الغل والبغي والحسد؛ لتسعد في الدنيا والآخرة، وردِّد كما كان أسلافك يرددون: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

مناجاة:
اللهم إن في قلوبنا تفرقًا وشعثًا لا يلمّه إلا الإقبال عليك، وفى قلوبنا وحشة لا يزيلها إلا الأنس بك في الخلوات، وفى قلوبنا حزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفتك، وصدق معاملتك، وفى قلوبنا قلقًا لا يسكنه إلا الاجتماع عليك، والفرارُ منك إليك، وفى قلوبنا نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمرك ونهيك وقضائك، والصبر على ذلك إلى وقت لقائك، وفى قلوبنا فاقة لا يسدها إلا محبتك والإنابة إليك، ودوام ذكرك، وصدق الإخلاص لك.

فاللهم حبِّب إلينا الإيمان؛ وزيِّنه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان حتى نلقاك بقلوب سليمة منيبة.

أقسام الصائمين:
يقول ابن رجب - رحمه الله - كما في "لطائف المعارف" ص 217:
والصائمون على طبقتين:
إحداهما: مَن ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى؛ يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر مَن أحسن عملًا، ولا يخيب معه مَن عامله، بل يربح عليه أعظم الربح، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل:
"إنك لن تدع شيئًا اتِّقاءً الله إلا أتاك الله خيرًا منه" (أخرجه الإمام أحمد).

فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، وقال الله تعالى:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24].

قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين

ومن يرد ملك الجنان
فلْيَدَعْ عنه التواني
وليقم في ظلمة الليل
إلى نور القرآن
وليصل صومًا بصوم
إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار
الله في دار الأمان

الطبقة الثانية من الصائمين:
مَن يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته.

أهل الخصوص من الصُّوَّام صومهم
صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم
صون القلوب عن الأغيار والحجب

والعارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قَصْر، ولا يُرْوِيهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجلُّ من ذلك.

كبرت همة عبد
طمعت في أن تراك
مَن يصُم عن مفطرات
فصيامي عن سواك

مَن صام عن شهوته في الدنيا أدركها غدًا في الجنة، ومَن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه:
﴿ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 5].

وقد صمت عن لذات دهري كلها
ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي


المصدر: شبكة الألوكة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بتعليقاتك و نتمنى لك التوفيق