واصل اقبالك على الطاعات حتى نهاية شهر رمضان

رغم أن الشياطين تسلسل في شهر رمضان الكريم، وما لذلك من دور كبير في مساعدتك على الإقبال على الطاعات في رمضان، ويظهر ذلك جليا في الأيام الأولى للشهر الفضيل، رغم هذا فإن النفس تسعى إلى أن تحبط من عزيمتك و من اجتهادك، فهذا طبعها ما دامت تميل إلى الراحة و الاسترخاء...

لهذا كان لا بد من وقفة مع هذا الأمر و اخترت أن أقدم لك أخي القارئ هذه الأسطر المأخوذة من خطبة قيمة للشيخ المنجد جزاه الله خيرا التي يشحذ فيها همم المسلمين قصد اغتنام الفرصة في رمضان و مواصلة الاجتهاد في هذا الشهر حتى آخر لحظة منه.



"لقد انتصف شهركم، ومرت أيام هذا النصف بسرعة، لم نكد نحس بتلك الأيام، والله سبحانه وتعالى قد جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا سورة الفرقان 62. فطوبى لمن جعل الأيام والليالي مستودعاً للأعمال الصالحة يزداد منها، والغافل الذي لم يغتنم تلك الأيام التي ولت ولن تعود، لم يغتنمها بطاعة الله وعبادته، أو قصر في ذلك فكانت طاعاته قليلة، لا تتناسب مع عظمة الشهر.

وكثير من الناس يصابون بالفتور في وسط رمضان، فيغفلون عن هذه الأواسط وما فيها من الفضل العظيم، يغفلون أن استحضار النية مستمر ، وأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فهذا الاحتساب في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره.

لا بد للمسلم أن يشحذ همته؛ لأنه قد يعتريها كلل وملل في وسط الشهر، وربما خف المترددون على المساجد، وقل عدد الناس في صلاة التراويح، ألا فليعلم الذي يتكاسل في وسط الشهر أنه يضيع على نفسه فرصة عظيمة؛ لأن أبواب الجنة ما زالت مفتوحة في منتصف رمضان، كما أن أبواب النار لا زالت مغلقة في وسط رمضان، كما أن لله في كل ليلة عتقاء من النار حتى في وسط رمضان، كما أن هذا الصيام سبب للتكفير في أوله وآخره وفي وسطه، كما أنه له الفضائل العظيمة، فإنه لا بد من اغتنام جميع أوقاته؛ لأنه ينادي منادٍ كل ليلة من ليالي رمضان كما جاء في الحديث الصحيح: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة).

إذاً هذا المنادي الكريم من الغفور الرحيم لا زال ينادي في أول الشهر، وفي وسط الشهر، وفي آخر الشهر، فيقول لك: يا عبد الله، (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة). إذاً الاستمرار في شحذ الهمة وتجديد العزيمة والقيام، إطالة الصلاة والدعاء والذكر والالتجاء إلى الله تعالى، واستحضار القلب عند الآيات التي فيها ذكر الرحمة والعذاب والثواب والعقاب والقصص والأمثال وأهوال القيامة، وأول ذلك ذكر أسماء الرب وصفاته سبحانه وتعالى، فلا تهملوا رحمكم الله شيئاً من أيام شهركم، واستمروا في العمل، وإياكم و التواني، وهذه أيام معدودة، وقد قال الله في كتابه العزيز: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ سورة البقرة184.

وكما انتهى نصف الشهر فسينتهي نصفه الآخر، وهكذا يمر فماذا فعلت في نصفه المنصرم يا عبد الله؟ وأي شيء استودعته في تلك الأيام، هل زدت في الأعمال الصالحة، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فهل زادت حسناتك، هل لا زلت مستحضراً للأجر والثواب في الإفطار والسحور، وكذا تجديد العهد مع الله سبحانه وتعالى على الاستمرار على طاعته، والتوبة مما مضى."

أنواع الذكر في رمضان وأفضلها

من أحوال المسلمين في رمضان: ذكر ربهم تبارك وتعالى. ولا ريب أن ذكر الله أنس السرائر وحياة الضمائر وأقوى الذخائر على الإطلاق يقول جل جلاله { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }.

وإن الإنسان لا يلهج  بذكر أحد إلا إذا بلغت محبته في القلب محبة عظيمة، فمن كان يحب الله حبا يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته ولا يقدم على حب الله حب أحد كان طبعيا وبدهيا أن يلهج لسانه بذكره.

أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ


ولكن المغرقين في الشهوات والعاكفين أمام شاشات التلفاز والمستمعين إلى ما حرم الله، هؤلاء غالبا ليس في قلوبهم إلا ما يبتغيه الشيطان ويريده أصحاب الفجور ويرتضيه أهل الهوى. فلذلك من البدهي أن يقل على ألسنتهم ذكر الله تبارك وتعالى. (تابع مقالة مسلسلات رمضان)

فالذي ينبغي أن يحرص عليه المؤمن في المقام الأول أن يجنب نفسه المواطن والمنازل والأماكن التي تلهي عن الله، لأنها إن ألهت عن الله ألهت عن ذكره. وينبغي عليه أن يحرص على أن يرتاد الأماكن التي فيها إحياء لذكر الله كالمساجد والصلوات وحلقات العلم ومواطن المحاضرات والجلساء الصالحين، فإن تلك المواطن مما تعين المرء على ذكر ربه.

 أما كيف يذكر المؤمن ربه؟

 فإن قراءة القرآن ذكر، والصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر، وتهليل الله وتسبيحه وحمده والثناء عليه ودعاءه نوع من الذكر. وأعظم الذكر على الإطلاق قول لا إله إلا الله لما في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه:" أن موسى سأل ربه قال يارب قل لي كلمة أدعوك وأذكرك بها . فأوحى الله إليه ياموسى قل لا إله إلا الله. قال يارب كل عبادك يقولون هذا. فأوحى الله إليه ياموسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله".

كما أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحب الكلام إلى الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".

وجاء في فضل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ما جاء من الفضل وهذا أمر مشتهر ظاهر بين منتشر بين الناس ولكن كما قلنا ينقص الناس العزيمة والأوبة والبذل لذكر الله تبارك وتعالى، ولهج هذا اللسان بذكره.

فقد أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بقوله " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله تبارك وتعالى ".

المصدر: من محاضرة  للشيخ صالح بن عواد المغامسي

مسلسلات رمضان

أقوى التنافس يجري بين الفضائيات العربية للحصول على حقوق بث أقوى مسلسلاترمضان لهذا العام، ومن كانت الفائزة بذلك سخرت كل الوسائل الدعائية لجلب المشاهد إليها و تحقيق أكبر نسب متابعة على شاشاتها...

في إحدى صفحات المواقع أحصيت ما مجمله 39 مسلسلا سيعرض في رمضان ستكون موزعة على عدة فضائيات..

وبطبيعة الحال التركيز على النجوم و المشاهير التي ستلعب دور البطولة في هذه المسلسلات، و الفيديوهات الإعلانية و التسويقية المؤثرة و كذا مواقع التواصل الاجتماعي .. كلها وسائل تسعى لجعل المشاهد يبرمج وقته في رمضان لمتابعة هذه المسلسلات..

وإلى جانب المسلسلات هناك الفقرات الكوميدية و المضحكة و برامج الترفيه و المسابقات الفنية و الرياضية و جميع التسميات التي تجتهد هذه الفضائيات في إعدادها و تقديمها في هذا الشهر الفاضل لمتتبعيها المحترمين كما يقولون !





 

طريق الهداية و طريق الغواية

هذا ليس عنوانا لأحد مسلسلات رمضان، بل هي دعوة للتفكر قليلا أخي القارئ و دعوة لكل من فـُتن بمسلسلات رمضان... ماذا تختار أيها العبد المسلم الذي تدعي أنك تعبد الله سبحانه و تعالى؟ هل تختار ما يريده لك الخالق من خير و من مكرمات و أجر و ثواب في رمضان (راجع مقالة رمضان)، أم تريد ما يقدمه لك هؤلاء التجار المحترفون في الإغواء و التضليل والزج بك في متاهات المعاصي والذنوب حتى تجد نفسك و قد مضى رمضان أنك كُـتبت من المحرومين ومن الذين لا يحصلون إلا على السراب ..

رمضان هو فرصة العمر و ربما لن تدركه مرة أخرى .. وأنت مخلوق لمهمة محدودة و هي عبادة الله عز وجل، وأنت بطبعك عبد تذنب و تخطئ و تحتاج أن يغفر لك الله سبحانه و تعالى لتنال رضاه و تفوز بالجنة، النعيم الدائم، فهل تختار الفاني على الباقي؟..

تخيل نفسك و أنت تتابع مسلسلات رمضان .. وتتابع ما يدور فيها من آثام و معاصي و مشاهد لا ترضي الله العلي القدير .. تخيل نفسك و الناس من حولك منهم من يعمر المساجد ومنهم من يقرأ القرآن و منهم من هو مشغول بالذكر و الاستغفار.. كيف ستكون حالك؟؟

بل تصور معي يا أخي الفاضل و أنت جالس تتابع أحد مسلسلات رمضان و قد أخذك أحد المشاهد .. فيأمر الله ملك الموت بقبض روحك؟ كيف سيكون موقفك؟؟؟

يقول عز وجل: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ

المال و الأولاد لن ينفعوك فما بالك بمسلسلات رمضان؟

يا أخي غير النظرة من الآن .. زنِ الأمور جيدا .. موقِع نفسك في جنب الله .. ستجده خير معين لك... فما هي إلا أيام معدودات لا تحتاج إلا إلى قليل صبر...

قال تعالى: "  فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  "

مسلسلات رمضان لن تفيدك بشيء، قل لي كم من رمضان مضى من عمرك و كم من مسلسل قد تابعت، ماذا استفدت؟

رمضان 2015

يضاف إلى مصيبة مسلسلات رمضان، يعني ربط المسلسلات باسم رمضان، مع أن رمضان بريء منها، فهي مسلسلات لشيء آخر أما رمضان فله احترامه و عظمته وحاشى أن يرتبط بشيء يغضب الله عز و جل... فنقول مثلا رمضان القرآن، رمضان التراويح، رمضان الإحسان إلى الفقراء ... فهذا هو ما يرتبط به رمضان..

إذن يضاف إلى عبارة مسلسلات رمضان طامة أخرى هي ربط رمضان بالسنة الميلادية و ليس بالعام الهجري .. فتجدهم يقولون رمضان 2015، رمضان 2014 ...

والله سبحانه و تعالى يقول :" إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ"

ورمضان من هذه الشهور، فهو شهر هجري لا ميلادي فأرجو الحذر من مثل هذه العبارات ...

هي مسلسِلات و ليست مسلسلات !!

نعم هي مسلسِلات في رمضان بكسر السين الثانية لأنها تسلسل المسلم عن التقرب إلى الله سبحانه و الفوز بأجر و ثواب وفضل الشهر الكريم..

وقد قال رسول الله " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ"

فإذا كانت الشياطين ستسلسل في رمضان فقد دربت أتباعها من الإنس قبل أن يحل رمضان بأن يسلسلوا عباد الله في رمضان حتى تعود إليهم، يعني الشياطين، بعد رمضان و تكمل معهم مهمتها..


فنسأل الله العلي القدير أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن و أن يثبتنا على الحق ما حيينا حتى نلقاه و هو راض عنا. آمين

ليلة القدر و ما أدراك ما ليلة القدر

ما أكرمك يا ربنا وما أحلمك بعبادك... تتودد إليهم وأنت في غنى عنهم .. تنزل عليهم خيراتك فيقابلونها بمعصيتك .. وهم أحوج ما يكونوا إليك...

تصور معي أخي القارئ لو أن ربنا أمر بعبادته و لم يبين لنا كيف؟ كيف سيكون حالنا؟؟ كم من واحد منا سيرضى عنه ربنا؟؟ كم من واحد سيوفق في عبوديته لربه؟؟؟ ربما لا أحد..

لكن من منه و فضله سبحانه أن بين لنا كل شيء و أرسل إلينا خير خلقه و أنزل علينا أفضل كتبه... بل و الأكثر من هذا أن تفضل علينا بمواسم الخيرات كي نغنم منها أكبر الغنائم ونفوز فيها بأعظم الثواب..

ليلة القدر أعظم منة و أكبر تفضل من العلي القدير.. يدرك بها العبد المؤمن أعلى المراتب و أفضل الأجر... ليلة من حيث الزمان قصيرة .. لكنها من حيث النتيجة عظيمة ... 5 ساعات أو 6 ساعات من العبادة و القيام ينال بها العبد ثواب عبادة ربه لمدة تزيد عن 83 سنة..

ليلة القدر


أكلُّ هذا من أجلك أيها العبد الصغير؟


ليلة القدر من القدر وهو الشرف ... فتقول رجل ذو قدر أي ذو شرف.. ليلة قدرها الله القدير لعباده كي ينالوا ثوابا ذا قدر كبير .. ثوابا يفوق ثواب عبادة الله مدة ألف شهر ...

ليلة هيئها الله تعالى لك أيها العبد الصغير، و جعلها في شهر عظيم شهر رمضان، و يسر لك فيها سبل نيل الأجر و سبل الفوز بمغفرته سبحانه.. قال صلى الله عليه و سلم : " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

فقط ما عليك أن تفعله هو أن تقوم هذه الليلة ... الليلة السالمة و الخالية من الشر و من تلبيس إبليس عليك ... "سلام هي حتى مطلع الفجر" ... بل هي ليلة تساعدك الملائكة و على طليعتهم سيدنا جبريل عليه السلام، على إحيائها .. فبتنزلهم تتنزل البركات و الرحمات وتمتلئ الأرض نورا و ضياء .. وستجد نفسك خفيفة على الطاعة ثقيلة على المعصية.. "تنزل الملائكة و الروح فيها".

فكل شيء مهيأ لك أيها العبد الصغير .. فمن تكون ؟؟؟  الله سبحانه و تعالى بجلاله و عظمته يريد لك أنت و حدك، بل أنت وحدك أيها المسلم، أن تفوز بهذا الخير الكبير ... فلم الغفلة ولم البعد و الجفاء مع العلي القدير ... لم تترك ليلة القدر و تتوجه لمشاهدة المسلسلات و متابعة المباريات و السهرات و الجلوس في المقاهي .. ولم تقيم حفلات البدع لإحياء ليلة القدر فيما يغضب الله سبحانه ؟؟ ..


اغتنم يا أخي المسلم قبل فوات الأوان و تب إلى ربك و عد إليه .. فما هي إلا لحظات و تنقضي أيامك .. ارجع و قف و استشعر هذا الخير الكبير و اجعل صوب عينيك قوله تعالى وما أدراك ما ليلة القدر.

تفسير سورة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) 


قوله تعالى : إنا أنزلناه يعني القرآن ، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة ; لأن المعنى معلوم ، والقرآن كله كالسورة الواحدة . وقد قال : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وقال : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، يريد : في ليلة القدر .
 
وقال الشعبي : المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر . وقيل : بل نزل به جبريل - عليه السلام - جملة واحدة في ليلة القدر ، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، إلى بيت العزة ، وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان جبريل ينزله على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوما نجوما . وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة ; قاله ابن عباس ، وقد تقدم في سورة ( البقرة ) . وحكى الماوردي عن ابن عباس قال : نزل القرآن في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، في ليلة مباركة ، جملة واحدة من عند الله ، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ; فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة ، ونجمه جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين سنة

قال ابن العربي : ( وهذا باطل ; ليس بين جبريل وبين الله واسطة ، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة ) . 

قوله تعالى : في ليلة القدر قال مجاهد : في ليلة الحكم . 

سورة القدر


وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) 


وما أدراك ما ليلة القدر قال : ليلة الحكم . والمعنى ليلة التقدير ; سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة ; من أمر الموت والأجل والرزق وغيره . ويسلمه إلى مدبرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبريل . عليهم السلام . 

وعن ابن عباس قال : يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت ، حتى الحاج . قال عكرمة : يكتب حاج بيت الله تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم ، ما يغادر منهم أحد ، ولا يزاد فيهم . وقاله سعيد بن جبير . وقد مضى في أول سورة ( الدخان ) هذا المعنى . 

وعن ابن عباس أيضا : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر . وقيل : إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها ، من قولهم : لفلان قدر ; أي شرف ومنزلة . قاله الزهري وغيره . وقيل : سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما ، وثوابا جزيلا . وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها . 

 وقيل : سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، على أمة ذات قدر . وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر . وقيل : لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة . وقال سهل : سميت بذلك لأن الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين . وقال : الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ; كقوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه أي ضيق . 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)

قوله تعالى : وما أدراك ما ليلة القدر
قال الفراء : كل ما في القرآن من قوله تعالى : وما أدراك فقد أدراه . وما كان من قوله : وما يدريك فلم يدره . وقاله سفيان ، وقد تقدم .  


لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)

ليلة القدر خير من ألف شهر بين فضلها وعظمها . وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل . وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر . والله أعلم . 

وقال كثير من المفسرين : أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر . وقال أبو العالية : ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر . وقيل : عنى بألف شهر جميع الدهر ; لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء ; كما قال تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة يعني جميع الدهر . 

 وقيل : إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد الله ألف شهر ، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر ، فجعل الله تعالى لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها . 

وقال أبو بكر الوراق : كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر ; فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما .  

وقال ابن مسعود : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ; فعجب المسلمون من ذلك ; فنزلت إنا أنزلناه الآية . خير من ألف شهر ، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله .  

ونحوه عن ابن عباس . وهب بن منبه : إن ذلك الرجل كان مسلما ، وإن أمه جعلته نذرا لله ، وكان من قرية قوم يعبدون الأصنام ، وكان سكن قريبا منها ; فجعل يغزوهم وحده ، ويقتل ويسبي ويجاهد ، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير ، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش ، انفجر له من اللحيين ماء عذب ، فيشرب منه ، وكان قد أعطي قوة في البطش ، لا يوجعه حديد ولا غيره : وكان اسمه شمسون . 

وقال كعب الأحبار : كان رجلا ملكا في بني إسرائيل ، فعل خصلة واحدة ، فأوحى الله إلى نبي زمانهم : قل لفلان يتمنى . فقال : يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي ، فرزقه الله ألف ولد ، فكان يجهز الولد بماله في عسكر ، ويخرجه مجاهدا في سبيل ، الله ، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد ، ثم يجهز آخر في عسكر ، فكان كل ولد يقتل في الشهر ، والملك مع ذلك قائم الليل ، صائم النهار ; فقتل الألف ولد في ألف شهر ، ثم تقدم فقاتل فقتل . فقال الناس : لا أحد يدرك منزلة هذا الملك ; فأنزل الله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر من شهور ذلك الملك ، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل الله
وقال علي وعروة : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة من بني إسرائيل ، فقال " عبدوا الله ثمانين سنة ، لم يعصوه طرفة عين " ; فذكر أيوب وزكريا ، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون ; فعجب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك . فأتاه جبريل فقال : يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين ، فقد أنزل الله عليك خيرا من ذلك ; ثم قرأ : إنا أنزلناه في ليلة القدر

 فسر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره : سمعت من أثق به يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أري أعمار الأمم قبله ، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ; فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، وجعلها خيرا من ألف شهر .  

وفي الترمذي عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أري بني أمية على منبره ، فساءه ذلك ; فنزلت إنا أعطيناك الكوثر ، يعني نهرا في الجنة . ونزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية . قال القاسم بن الفضل الحداني : فعددناها ، فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يوما ، ولا تنقص يوما . قال : حديث غريب .

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)

قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر
قوله تعالى : تنزل الملائكة أي تهبط من كل سماء ، ومن سدرة المنتهى ; ومسكن جبريل على وسطها . فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس ، إلى وقت طلوع الفجر ; فذلك قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم 

أي جبريل - عليه السلام - . وحكى القشيري : أن الروح صنف من الملائكة ، جعلوا حفظة على سائرهم ، وأن الملائكة لا يرونهم ، كما لا نرى نحن الملائكة . 

وقال مقاتل : هم أشرف الملائكة . وأقربهم من الله تعالى . وقيل : إنهم جند من جند الله - عز وجل - من غير الملائكة . رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا ; ذكره الماوردي وحكى القشيري : قيل هم صنف من خلق الله يأكلون الطعام ، ولهم أيد وأرجل ; وليسوا ملائكة . وقيل : الروح خلق عظيم يقوم صفا ، والملائكة كلهم صفا . وقيل : الروح الرحمة ينزل بها جبريل - عليه السلام - مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها ; دليله : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، أي بالرحمة . فيها أي في ليلة القدر . بإذن ربهم أي بأمره . 

من كل أمر أمر بكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل ; قاله ابن عباس ; كقوله تعالى : يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله . وقراءة العامة تنزل بفتح التاء ; إلا أن البزي شدد التاء . وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع ، بضم التاء على الفعل المجهول . وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي ( من كل امرئ ) . 

وروي عن ابن عباس أن معناه : من كل ملك ; وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة ، فيسلمون على كل امرئ مسلم . ( فمن ) بمعنى على . وعن أنس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة ، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى .

سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

قوله تعالى : سلام هي حتى مطلع الفجر قيل : إن تمام الكلام من كل أمر ثم قال سلام . روي ذلك عن نافع وغيره ; أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها . حتى مطلع الفجر أي إلى طلوع الفجر .  

قال الضحاك : لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل : أي هي سلام ; أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة . وكذا قال مجاهد : هي ليلة سالمة ، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى . وروي مرفوعا . وقال الشعبي : هو تسليم الملائكة على أهل المساجد ، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر ; يمرون على كل مؤمن ، ويقولون : السلام عليك أيها المؤمن . وقيل : يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها

وقال قتادة : سلام هي : خير هي . حتى مطلع الفجر أي إلى مطلع الفجر . وقرأ الكسائي وابن محيصن ( مطلع ) بكسر اللام ، الباقون بالفتح . والفتح والكسر : لغتان في المصدر . والفتح الأصل في فعل يفعل ; نحو المقتل والمخرج . والكسر على أنه مما شذ عن قياسه ; نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر . حكي في ذلك كله الفتح والكسر ، على أن يراد به المصدر لا الاسم . 

وهنا ثلاث مسائل : 

الأولى : في تعيين ليلة القدر

 وقد اختلف العلماء في ذلك . والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين ; لحديث زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول : ( من يقم الحول يصب ليلة القدر . فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ; ولكنه أراد ألا يتكل الناس ; ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . قال قلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالآية التي أخبرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها ) . 

قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وخرجه مسلم . وقيل : هي في شهر رمضان دون سائر العام ; قاله أبو هريرة وغيره . وقيل : هي في ليالي السنة كلها . فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر ، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضي سنة من يوم حلف ; لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك ، ولم يثبت اختصاصها بوقت ; فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضي حول . وكذلك العتق ; وما كان مثله من يمين أو غيره . 

وقال ابن مسعود : من يقم الحول يصبها ; فبلغ ذلك ابن عمر ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان ; ولكنه أراد ألا يتكل الناس . وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة . وقيل عنه : إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة ; والصحيح أنها باقية . 

 وروي عن ابن مسعود أيضا : أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة ، كانت في العام المقبل في يوم آخر . والجمهور على أنها في كل عام من رمضان . ثم قيل : إنها الليلة الأولى من الشهر ; قاله أبو رزين العقيلي . وقال الحسن وابن إسحاق وعبد الله بن الزبير : هي ليلة سبع عشرة من رمضان ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر كأنهم نزعوا بقوله تعالى : وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، وكان ذلك ليلة سبع عشرة ، وقيل هي ليلة التاسع عشر . 

 والصحيح المشهور : أنها في العشر الأواخرمن رمضان ; وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد . ثم قال قوم : هي ليلة الحادي والعشرين . ومال إليه الشافعي - رضي الله عنه - ; لحديث الماء والطين ورواه أبو سعيد الخدري ، خرجه مالك وغيره . 

وقيل ليلة الثالث والعشرين ; لما رواه ابن عمر أن رجلا قال : يا رسول الله إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين ، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين " . 

قال معمر : فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا . وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين " . قال عبد الله بن أنيس : فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين ، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .  

وقيل : ليلة خمس وعشرين ; لحديث أبي سعيد الخدري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى " . رواه مسلم ، قال مالك : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين ، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين ، والخامسة ليلة خمس وعشرين .  

وقيل : ليلة سبع وعشرين . وقد مضى دليله ، وهو قول علي - رضي الله عنه - وعائشة ومعاوية وأبي بن كعب . وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كان متحريا ليلة القدر ، فليتحرها ليلة سبع وعشرين " .  

وقال أبي بن كعب : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين " .  

وقال أبو بكر الوراق : إن الله تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة ، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال : هي . وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات ، وهي تسعة أحرف ، فتجيء سبعا وعشرين . وقيل : هي ليلة تسع وعشرين ; لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليلة القدر التاسعة والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى " . وقد قيل : إنها في الأشفاع . 

قال الحسن : ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة ، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها . يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة . وقيل إنها مستورة في جميع السنة ، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي . وقيل : أخفاها في جميع شهر رمضان ، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان ، طمعا في إدراكها ، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات ، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل ، وغضبه في المعاصي ، ورضاه في الطاعات ، وقيام الساعة في الأوقات ، والعبد الصالح بين العباد ; رحمة منه وحكمة

الثانية : في علاماتها

منها أن الشمس ، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها . وقال الحسن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر : " إن من أماراتها : أنها ليلة سمحة بلجة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع " . وقال عبيد بن عمير : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر ، فأخذت من مائه ، فوجدته عذبا سلسا

الثالثة : في فضائلها 

 وحسبك بقوله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر وقوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها . وفي الصحيحين : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه رواه أبو هريرة .  

وقال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان ليلة القدر ، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ، منهم جبريل ، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري ، ولواء على بيت المقدس ، ولواء على المسجد الحرام ، ولواء على طور سيناء ، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه ، إلا مدمن الخمر ، وآكل الخنزير ، والمتضمخ بالزعفران " .  

وفي الحديث : " إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها ، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد ، ولا ينفذ فيها سحر ساحر " . 

وقال الشعبي : وليلها كيومها ، ويومها كليلها . وقال الفراء : لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم ، ويقدر في غيرها البلايا والنقم ; وقد تقدم عن الضحاك . ومثله لا يقال من جهة الرأي ، فهو مرفوع . والله أعلم .  

وقال سعيد بن المسيب في الموطأ : من شهد العشاء من ليلة القدر ، فقد أخذ بحظه منها ، ومثله لا يدرك بالرأي . وقد روى عبيد الله بن عامر بن ربيعة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر " ذكره الثعلبي في تفسيره .  

وقالت عائشة - رضي الله عنها - : قلت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول ؟ قال : ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني . 

------------------------------------------

صيام القلب

وصيام القلب من أرقى أنواع الصيام، وقد سمَّاه الغزالي - رحمه الله - في "الإحياء":
بصيام "خصوص الخصوص"، وهو عبارة عن صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله بالكلية، فهو إقبال بكل الهمة على الله - عز وجل - وانصراف عن غير الله سبحانه.

والقلب هو محل السعادة والشقاء، والإيمان والكفر، واليقين والشك، وإنما فرض الصيام لأسرار وحكم لا يدركها مَن كان أكبر همه أن يمتلئ بطنه بعد طول فراغ، وأن يطفئ حرارة الجوع، وشدة العطش عند مغيب الشمس، وذلك آخر عهده بالصوم.

إنما فُرِضَ الصوم ليسُلَّ من الصدور سخائها، وليدفع عن القلوب أوضارها، وليؤتِ النفوس تقواها.

وبالصوم تنسد مسالك الأكل والشرب، ويفرغ القلب للتذكُّر والتدبُّر، والنظر والتأمُّل، فيرى حقيقة الدنيا وحقارتها، وقلة شأنها وهوانها، وأنها مهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة.

أضف إلى هذا أن الصائم الصادق قد ستر قلبه عن الأحقاد والضغائن، وحال الصوم بينه وبين ما يفسده من أمراض القلوب، التي تقتل صاحبها في الدنيا، قبل أن تقتله أمراض البدن.

ويكفى ذمًَّا للشحناء والتباغض والتقاطع والتدابر أنها قاطعة للبر والصلة ما حقهُ للخير والبركة، مانعة من المغفرة في ليلة النصف من شعبان وكذا يوم الاثنين والخميس.

وكيف يصوم مَن أفطر قلبه على سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وانطوى صدره على الغش لإخوانه، وإلقاء العداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟

صيام القلب


فصيام القلب يكون بتفريغه من هذه المواد الفاسدة سواء أكانت شركِيَّات مهلكة أو اعتقادات باطلة، ومن وساوس سيئة، ومن نوايا خبيثة، ومن خطرات موحشة.

ويصوم قلب المؤمن كذلك عن الكبر والعُجب والرياء والحسد، فإذا صام القلب عن هذا كله؛ فإنه يصبح قلبًا طاهرًا عامرًا بحب الله، ويكون صاحبه من أفضل الناس.

فقد أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال:
"قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد".

مخموم القلب: طاهر القلب نظيفه، كما جاء في الحديث.

فإذا صام القلب عن هذا كله فإنه يصبح قلبًا طاهرًا عامرًا بحب الله، قلبًا فيه نور وهاج لا تبقى معه ظلمة فتراه يُزْهِرُ كالمصباح، ويضيء كالشمس، ويلمع كالفجر.

من أجل هذا ينبغي على الإنسان أن يهتم بباطنه أكثر من اهتمامه بظاهره؛ لأن الله - عز وجل - لا ينظر إلى الظاهر إنما محل نظر الرب إلى القلب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم":
ن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في "مسند الإمام أحمد": "التقوى ها هنا" ويشير إلى صدره.

فإذا صلح القلب واستسلم صلحت الجوارح واستقامت.
ولقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجوارح تصلح بصلاح القلب، لأن أصل الاستسلام هو خضوع القلب وانكساره بكليته لله تعالى: قولًا وعملًا، فإذا حصل هذا الخضوع القلبي المقترن بمحبة وتعظيم لله تعالى انقادت الجوارح تبعًا لذلك ولابد كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب".

ومن هنا كان الاهتمام بالقلب أمر حتمي، وأنه ينبغي أن يصوم عمَّا حرَّم الله تعالى؛ لأن بصلاحه يكون صلاح الجوارح واستقامتها.

وقفة:
هل تعلم أخي الحبيب كما أن صيام القلب عن المواد الفاسدة سبيل لصلاح الجسد، كما مر بنا؟ فكذلك صيام الجسد عن الطعام والشراب سبيل لصلاح القلب.

فقد قال الحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر".

وحر الصدر: أي حقده وحسده.

ويقول إبراهيم الخواص - رحمه الله -: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتَّضرُّع عند السحر، ومجالسة الصالحين".

وكذلك صيام النفس عن الشهوات سبيل لصلاح القلب.
يقول أبو سليمان الداراني - رحمه الله -:
"إن جاعت النفس وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت عمِيّ".

بشرى لمن صام قلبه عن الأمراض المهلكة:
أخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
"كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، وقد تعلَّق نعليه في يديه الشمال، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالة الأولى، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني اليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله - عز وجل - حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرارٍ: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة؛ فطلعتَ أنت الثلاث مرارٍ، فأردتُ أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير إني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق".

تنطف لحيته: يتساقط منها الماء لاحيت أبي: أي نازعته.

فهي أخي الحبيب... طَهِّر قلبك من الغل والبغي والحسد؛ لتسعد في الدنيا والآخرة، وردِّد كما كان أسلافك يرددون: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

مناجاة:
اللهم إن في قلوبنا تفرقًا وشعثًا لا يلمّه إلا الإقبال عليك، وفى قلوبنا وحشة لا يزيلها إلا الأنس بك في الخلوات، وفى قلوبنا حزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفتك، وصدق معاملتك، وفى قلوبنا قلقًا لا يسكنه إلا الاجتماع عليك، والفرارُ منك إليك، وفى قلوبنا نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمرك ونهيك وقضائك، والصبر على ذلك إلى وقت لقائك، وفى قلوبنا فاقة لا يسدها إلا محبتك والإنابة إليك، ودوام ذكرك، وصدق الإخلاص لك.

فاللهم حبِّب إلينا الإيمان؛ وزيِّنه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان حتى نلقاك بقلوب سليمة منيبة.

أقسام الصائمين:
يقول ابن رجب - رحمه الله - كما في "لطائف المعارف" ص 217:
والصائمون على طبقتين:
إحداهما: مَن ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى؛ يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر مَن أحسن عملًا، ولا يخيب معه مَن عامله، بل يربح عليه أعظم الربح، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل:
"إنك لن تدع شيئًا اتِّقاءً الله إلا أتاك الله خيرًا منه" (أخرجه الإمام أحمد).

فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، وقال الله تعالى:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24].

قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين

ومن يرد ملك الجنان
فلْيَدَعْ عنه التواني
وليقم في ظلمة الليل
إلى نور القرآن
وليصل صومًا بصوم
إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار
الله في دار الأمان

الطبقة الثانية من الصائمين:
مَن يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته.

أهل الخصوص من الصُّوَّام صومهم
صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم
صون القلوب عن الأغيار والحجب

والعارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قَصْر، ولا يُرْوِيهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجلُّ من ذلك.

كبرت همة عبد
طمعت في أن تراك
مَن يصُم عن مفطرات
فصيامي عن سواك

مَن صام عن شهوته في الدنيا أدركها غدًا في الجنة، ومَن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه:
﴿ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 5].

وقد صمت عن لذات دهري كلها
ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي


المصدر: شبكة الألوكة